توثيق الشهادة

التاريخ والذاكرة

التضامن

شهادات الأطفال

توثيق الشهادة

ما بدا لافتاً في تلك الفترة، هو التوظيف السياسي للتوثيق البصري في الكتب العربيّة ولقوّة تأثيره العاطفيّة. توفّر الكتب المصوّرة أدلّةً بصريةً مُستقلّة، كما تُقدّم تعبيراً جمالياً مؤثّراً، فهي تسجّل شهادات عن مآسي الحروب والخسارات المفجعة، فيما تدعو أيضاً إلى الكفاح للمطالبة بالحريّة والعدالة، وتُحيي الوجوه البطوليّة، وتُذكّر بالشهداء وتُشهر قضيّتهم أمام عيون العالم. تُحوّل هذه الكتب الذاكرة الجماعية – خصوصاً تلك التي حُرِّم ذكرُها وحُجبت رؤيتها – إلى معرفةٍ عامّة عبر سبلٍ بصريّة مؤثّرة وخلّاقة. إنّ مُجمل الكتب المصوّرة المعروضة في هذا القسم، أُنتجت لكي توثّق الحدث المحجوب، ولكي تكون شاهدةً عليه.

 

تزامن انتشار الكتب المصوّرة مع صعود الفنّ الثوري الملتزم خلال الستينات والسبعينات في العالم العربي وخارجه. دعوات الاحتجاج والنضال انتقلت من الوثيقة الفوتوغرافيّة والملصق السياسي والمنشورات الدوريّة الراديكاليّة، لتصل إلى الكتاب برؤيته العميقة والشاملة. غالباً ما صدرت هذه الكتب بلغاتٍ متعدّدة، فتجاوزت قرّاء العربية المهتمّين بهذه القضايا. كتب كهذه صُنعت لكي تتخطّى حدود اللغة والانتماء، ولكي تبني روابط تضامن عابرة للقوميّات، وتُخاطب القرّاء الأجانب أملًا بإحقاق العدالة.

 

ألهمت بعض الأحداث التاريخيّة المُبادرات الفنيّة التضامُنيّة التي تبلورت في شكل كتب، نذكر منها إطلاق منظّمة تضامن الشعوب الإفريقية – الآسيوية في مؤتمر پاندونغ عام 1955، وحرب التحرير الجزائرية (1954-1962) والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والحرب العربية – الإسرائيلية عام 1967، إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي للبنان واعتداءاته المتلاحقة عليه. غير أنّ القضية الفلسطينية استأثرت بالقسط الأوفر من الكتب المصوّرة، إذ شكلّ نضال الفلسطينيين المستمرّ منذ نكبة 1948 مثالاً يُحتذى في صياغة الأساليب الفنيّة التي اعتمدتها الكتب العربية لتسجيل الشهادات والتعبير عن التضامن.

التاريخ والذاكرة

تشتملُ الكتب التصويرية التوثيقيّة على النصّ، والرسومات البيانيّة التوضيحيّة، والخرائط الجغرافية والصُّوَر الفوتوغرافيّة بهدف توفير أدلّةٍ بصرية لأحداث تاريخية ممحيّة وفظائع حروب محجوبة. طالبت هذه الكتب بالعدالة وبالإنصاف التاريخيين بسبلٍ شتّى.

 

«فلسطين بطاقات بريديّة» و«طوابع فلسطينية (1865-1981)» يندرجان ضمن هذه الكتب التي تُعدّ بمثابة وثائق تاريخيّة أو آثار أركيولوجية، بتقديمها أدلّة بصريّة وماديّة لمكان وشعب أُنكِرَ وجودهما. في نماذج كهذه يكون محتوى الكتاب وحجّته معتمدان على سرديّته البصريّة، وتكون صناعته عملاً تعاونياً لمقاومة المحو التاريخي، بما تتضمّنه هذه الصناعة من مهمّات مثل جمع الموادّ والمعلومات المحيطة بالموضوع، وصولاً إلى تصميم الكتاب ونشره.

 

وعلى نحوٍ مماثلٍ، فإنّ الكتب التصويريّة ليوميّات الحروب تسجِّل مآسي للسكّان المدنيين الذين يتعرّضون للاعتداءات، وتستجيبُ لأخلاقيات توثيق الشهادة وتجعل الذاكرة الجماعية مرئيّة.

التضامن

استجاب الفنانون والشعراء للقضايا والأحداث بكلماتٍ وصور مشحونة عاطفيّاً. لم تتّخذ هذه التجارب من التوثيق الموضوعي أولويّةً لها، بقدر ما تمسّكت بأهميّة أن تكون شاهدةً على الحدث الإنساني، وأن تمدّ السياسات المناهضة للاستعمار ببعدٍ جمالي.

 

أكان تأليفه منفرداً أو مشتركاً، فإنّ ما يُعرف بـ «كِتاب الفنّان» يُجسّد عملاً سياسيّاً تضامنيّاً في أبعاده البصريّة والماديّة. لن يبقى العمل الفنيّ هنا مقتصراً على لوحةٍ منفردةٍ في صفحةٍ معيّنة، بل سيولد باستمرارٍ من قوّة الكتاب كعملٍ أدائي وتواصليّ، بنسخه العديدة وبقابليّته على التداول إلى ما لا نهاية.

شهادات الأطفال

يجد الأطفال متعةً في التعبير الإبداعي الحرّ كتمرينٍ علاجيّ صرف من شأنه أن يُقدّم سجلّاً وافياً لحيواتهم وعوالمهم الخياليّة عبر الألوان. الأطفال شهودٌ أبرياء، وشهاداتهم عن العنف والظلم وما يتعرّضون له خلال الحروب، هي وثائق شفّافة دون توجيهات واعية. وحين تُنشر في الكتب، فإن رسوماتهم تسجّل دليلاً بصريّاً دامغاً يجعل فعل القراءة/ المُشاهدة أمراً مُربكاً.

 

ترصد عيونهم الطائرات الحربيّة ومخيّمات اللاجئين البائسة والمنازل المهدّمة والبنادق والموت والخوف… هذه تصبح بمجملها مشاهد عاديّة تسكن مخيلاتهم وتشكّل فهمهم للعالم من حولهم. صحيح أنّ القارئ سيقع على براءة تلك الرسومات الملوّنة، إلاّ أنّه سيصطدم أيضاً بالظروف التي تتحدّى هذه البراءة. ثمّة توتّر عاطفي وتوثيقي يكمن في السرد البصري الطفولي، وهو تحديداً ما يمنح هذه الكتب قوّتها كأدلّةٍ وشهاداتٍ حيّة.